إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ

سورة آل عمران : 140

القول في تأويل وتفسير قوله تعالى إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، لأشهر المفسرين نضع بين أيديكم تفسير الآية 140 من سورة آل عمران بالمصحف الشريف:

تفسير المختصر سورة آل عمران الآية 140

إن أصابكم - أيها المؤمنون - جِرَاح وقَتْل يوم أُحد، فقد أصاب الكفار جِرَاح وقَتْل مثل ما أصابكم، والأيام يصرفها الله بين الناس مؤمنهم وكافرهم بما شاء من نصر وهزيمة؛ لحِكَم بالغة؛ منها: ليَظْهَر المؤمنون حقيقةً من المنافقين، ومنها: ليُكْرِم من يشاء بالشهادة في سبيله، والله لا يحب الظالمين لأنفسهم بترك الجهاد في سبيله.

تفسير المُيسّر سورة آل عمران الآية 140

إن أصابتكم -أيها المؤمنون- جراح أو قتل في غزوة "أُحد" فحزنتم لذلك، فقد أصاب المشركين جراح وقتل مثل ذلك في غزوة "بدر". وتلك الأيام يُصَرِّفها الله بين الناس، نصر مرة وهزيمة أخرى، لما في ذلك من الحكمة، حتى يظهر ما علمه الله في الأزل ليميز الله المؤمن الصادق مِن غيره، ويُكْرِمَ أقوامًا منكم بالشهادة. والله لا يحب الذين ظلموا أنفسهم، وقعدوا عن القتال في سبيله.

تفسير السعدي سورة آل عمران الآية 140

ثم سلَّاهم بما حصل لهم من الهزيمة، وبيَّن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك، فقال: { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح، ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون كما قال تعالى: { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فيداول الله الأيام بين الناس، يوم لهذه الطائفة، ويوم للطائفة الأخرى؛ لأن هذه الدار الدنيا منقضية فانية، وهذا بخلاف الدار الآخرة، فإنها خالصة للذين آمنوا. { وليعلم الله الذين آمنوا } هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء، ليتبين المؤمن من المنافق؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده، فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء، تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام، في الضراء والسراء، واليسر والعسر، ممن ليس كذلك. { ويتخذ منكم شهداء } وهذا أيضا من بعض الحكم، لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين، أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم، { والله لا يحب الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم، وتقاعدوا عن القتال في سبيله، وكأن في هذا تعريضا بذم المنافقين، وأنهم مبغضون لله، ولهذا ثبطهم عن القتال في سبيله. { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين }

تفسير البغوي سورة آل عمران الآية 140

"إن يمسسكم قرح"قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر "قرح" بضم القاف حيث جاء، وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان معناهما كالجهد والجهد، وقال الفراء القرح بالفتح: الجراحة، وبالضم:ألم الجراحة، هذا خطاب مع المسلمين حيث انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن، يقول الله تعالى: "إن يمسسكم قرح" يوم أحد، "فقد مس القوم قرح مثله"، يوم بدر، "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فيوم لهم ويوم عليهم، أديل المسلمون على المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد ألمليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن خالد أنا زهير أخبرنا أبو إسحق قال:سمعت البراء بن عازب قال: "جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً عبد الله بن جبير، فقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فهزموهم ، قال :فإنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين . فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين . وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين رجلاً، سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد ثلاث مرات،فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا ، فما ملك عمر نفسه ، فقال كذبت والله ياعدو الله ، إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك مايسوءك ، قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلهً لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم أخذ يرتجز:أعل هبل أعل هبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه ؟ قالوا : يا رسول مانقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، قال : إن لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه؟ قالوا : يا رسول الله مانقول ؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ".
وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديثه قال أبو سفيان : يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر ضي الله عنه : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال الزجاج: الدولة تكون للمسلمين على الكفار ، لقوله تعالى : "وإن جندنا لهم الغالبون" ، وكانت يوم احد للكفار على المسلمين لمخالفتهم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قوله تعالى:"وليعلم الله الذين آمنوا " يعني: إنما كانت هذه المداولة ليعلم الله (أي: ليرى الله ) الذين آمنوا فيميز المؤمن من المنافق، "ويتخذ منكم شهداء" يكرم أقواماً بالشهادة " والله لا يحب الظالمين ".

تفسير ابن كثير سورة آل عمران الآية 140

( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) أي : إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل منكم طائفة ، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) أي : نديل عليكم الأعداء تارة ، وإن كانت العاقبة لكم لما لنا في ذلك من الحكم ، ولهذا قال تعالى :( وليعلم الله الذين آمنوا ) قال ابن عباس : في مثل هذا لنرى ، أي : من يصبر على مناجزة الأعداء ( ويتخذ منكم شهداء ) يعني : يقتلون في سبيله ، ويبذلون مهجهم في مرضاته . ( والله لا يحب الظالمين )

تفسير الطبري سورة آل عمران الآية 140

القول في تأويل قوله : إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ )، كلاهما بفتح " القاف "، بمعنى: إن يمسسكم القتل والجراح، يا معشر أصحاب محمد، فقد مس القوم من أعدائكم من المشركين قرح = قتلٌ وجراح = مثله.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قُرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قُرْحٌ مِثْلُهُ ). [كلاهما بضم القاف]. (56)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: " إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قَرْح مثله "، بفتح " القاف " في الحرفين، لإجماع أهل التأويل على أن معناه: القتل والجراح، فذلك يدل على أن القراءة هي الفتح.
وكان بعض أهل العربية يزعُمُ أن " القَرح " و " القُرح " لغتان بمعنى واحد. والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا. (57)
* * *
*ذكر من قال: إنّ" القَرح "، الجراح والقتل.
7893- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " إن يمسسكم قَرح فقد مس القوم قرحٌ مثله "، قال: جراحٌ وقتلٌ.
7894- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
7895- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: " إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله "، قال: إن يقتلوا منكم يوم أحد، فقد قتلتم منهم يوم بدر.
7896- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله "، والقرح الجراحة، وذاكم يوم أحد، فشا في أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتل والجراحة، فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثلُ الذي أصابكم، وأن الذي أصابكم عقوبة.
7897- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله "، قال: ذلك يوم أحد، فشا في المسلمين الجراح، وفشا فيهم القتل، فذلك قوله: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله "، يقول: إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوّكم مثله = يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحثهُّم على القتال.
7898- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله "، والقرح هي الجراحات.
7899- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " إن يمسسكم قرح " أي: جراح =" فقد مس القوم قرح مثله "، أي: جراح مثلها. (58)
7900- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نام المسلمون وبهم الكلوم = يعني يوم أحد = قال عكرمة: وفيهم أنـزلت: " إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس "، وفيهم أنـزلت: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [سورة النساء: 104].
* * *
وأما تأويل قوله: " إن يمسسكم قرحٌ"، فإنه: إن يصبكم،. (59) كما:-
7901- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " إن يمسسكم "، إن يصبكم.
* * *
القول في تأويل قوله : وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره [بقوله] (60) " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، أيام بدر وأحُد.
* * *
ويعني بقوله: " نداولها بين الناس "، نجعلها دُوَلا بين الناس مصرَّفة. = ويعني بـ" الناس "، المسلمين والمشركين. وذلك أن الله عز وجل أدال المسلمين من المشركين ببدر، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين. وأدال المشركين من المسلمين بأحُد، فقتلوا منهم سبعين، سوى من جرحوا منهم.
* * *
يقال منه: " أدال الله فلانًا من فلان، فهو يُديله منه إدالة "، إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المُدَال منه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
7902- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، قال جعل الله الأيام دولا أدال الكفار يوم أحُد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7903- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، إنه والله لولا الدُّوَل ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يُدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب.
7904- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، فأظهر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين يوم بدر، وأظهر عليهم عدوَّهم يوم أحُد. وقد يدال الكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه، ويعلم الصادق من الكاذب. وأما من ابتلى منهم = من المسلمين = يوم أحد، فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7905- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، يومًا لكم، ويومًا عليكم.
7906- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: " نداولها بين الناس "، قال: أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
7907- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، فإنه كان يوم أحُد بيوم بدر، قُتل المؤمنون يومَ أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين، فجعل له الدولة عليهم.
7908- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان قتال أحد وأصاب المسلمين ما أصابَ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد! يا محمد! ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحربُ سجال: يوم لنا ويوم لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أجيبوه، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم! فقال رَسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل! فقال أبو سفيان: موعدكم وموعدنا بدرٌ الصغرى = قال عكرمة: وفيهم أنـزلت: " وتلك الأيام نداولها بين الناس ".
7909- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن ابن عباس، في قوله: " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، فإنه أدال على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
7910- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، أي نصرِّفها للناس، للبلاء والتمحيص. (61)
7911- حدثني إبراهيم بن عبد الله قال، أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن عون، عن محمد في قول الله: " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، قال: يعني الأمراء. (62)
* * *
القول في تأويل قوله : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء = نداولها بين الناس.
ولو لم يكن في الكلام " واو "، لكان قوله: " ليعلم " متصلا بما قبله، وكان وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ، ليعلم الله الذين آمنوا. ولكن لما دخلت " الواو " فيه، آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها، وأن بعدها خبرًا مطلوبًا، واللام التي في قوله: " وليعلم "، به متعلقة. (63)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: " وليعلم الله الذين آمنوا " معرِفةً، وأنت لا تستجيز في الكلام: " قد سألت فعلمتُ عبد الله "، وأنت تريد: علمت شخصه، إلا أن تريد: علمت صفته وما هو؟
قيل: إن ذلك إنما جاز مع " الذين "، لأن في" الذين " تأويل " مَن " و " أيّ"، وكذلك جائز مثله في" الألف واللام "، كما قال تعالى ذكره: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [سورة العنكبوت: 3]، (64) لأن في" الألف واللام " من تأويل " أيّ"، و " مَن "، مثل الذي في" الذي". ولو جعل مع الاسم المعرفة اسم فيه دلالة على " أيّ"، جاز، كما يقال: " سألت لأعلم عبد الله مِنْ عمرو "، ويراد بذلك: لأعرف هذا من هذا. (65)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وليعلم الله الذين آمنوا منكم، أيها القوم، من الذين نافقوا منكم، نداول بين الناس = فاستغنى بقوله: " وليعلم الله الذين آمنوا منكم "، عن ذكر قوله: " من الذين نافقوا "، لدلالة الكلام عليه. إذ كان في قوله: " الذين آمنوا " تأويل " أيّ" على ما وصفنا. فكأنه قيل: وليعلم الله أيكم المؤمن، كما قال جل ثناؤه: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى [سورة الكهف: 12] (66) غير أن " الألف واللام "، و " الذي" و " من " إذا وضعت مع العَلم موضع " أيّ"، نصبت بوقوع العلم عليه، كما قيل: وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ، فأما " أيّ" فإنها ترفع. (67)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: " ويتخذ منكم شهداء "، فإنه يعني: " وليعلم الله الذين آمنوا " وليتخذ منكم شهداء، أي: ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها.
* * *
=" والشهداء " جمع " شهيد "، (68) كما:-
7912- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء "، أي: ليميِّز بين المؤمنين والمنافقين، وليكرم من أكرَم من أهل الإيمان بالشهادة. (69)
7913- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله: " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء "، قال: فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم: " ربنا أرنا يومًا كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونُبليك فيه خيرًا، ونلتمس فيه الشهادة "! فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.
7914- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء "، فكرَّم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوِّهم، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله.
7915- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء "، قال: قال ابن عباس: كانوا يسألون الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.
7916- حدثني عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء "، كان المسلمون يسألون ربهم أن يُريهم يومًا كيوم بدر، يبلون فيه خيرًا، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون الجنة والحياة والرزق، فلقوا المشركين يوم أحد، (70) فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل فقال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ الآية، [سورة البقرة: 154].
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: " والله لا يحب الظالمين "، فإنه يعني به: الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم،، كما:-
7917- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " والله لا يحب الظالمين "، أي: المنافقين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة، وقلوبهم مصرَّة على المعصية. (71)
* * *
---------------
الهوامش :
(56) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق كلامه. هذا ، وظاهر من ترجيح أبي جعفر بعد ، أن في الكلام سقطًا من الناسخ ، وذلك تفسير"القرح" بضم القاف ، ولعله كان قد ذكر هنا ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 234 وذلك قوله: "وقد قرأ أصحابُ عبد الله"قُرْح" وكأن القُرْح: ألم الجراحات ، وكأن القَرْحَ الجراحاتُ بأعيانها".
(57) انظر التعليق السالف ، فنص قوله هنا دال على خرم في نص الطبري.
(58) الأثر: 7899- سيرة ابن هشام 3: 116 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7891.
(59) انظر تفسير: "المس" فيما سلف 2: 274 / 5 : 118 / 7: 155.
(60) ما بين القوسين زيادة يقتضيها سياق تفسيره.
(61) الأثر: 7910- سيرة ابن هشام 3: 116 ، 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7899.
(62) الأثر: 7911-"إبراهيم بن عبد الله" ، كثير ، والذي نصوا على أن الطبري روى عنه ، هو: "إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي ، أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة" توفى سنة 265. مترجم في التهذيب."وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبي" ، روى عن مالك وحماد بن زيد. وروى عنه البخاري ، مات سنة 228. مترجم في التهذيب. و"محمد" هو ابن سيرين.
(63) في المطبوعة والمخطوطة"اللام" بغير واو ، والصواب إثباتها. وفي المطبوعة: "متعلقة به" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(64) في المخطوطة والمطبوعة: "وليعلمن الله" بالواو ، وهو سهو من الناسخ مخالف للتلاوة.
(65) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 234 ، 235.
(66) في المخطوطة والمطبوعة: "ليعلم" بالياء ، وهو سهو من الناسخ مخالف للتلاوة.
(67) انظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 234 ، 235.
(68) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف 1: 376 - 378 / 3: 97 ، 145 / 6 : 75.
(69) الأثر: 7912- سيرة ابن هشام 3: 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7910.
(70) في المطبوعة: "فلقى المسلمون" ، بدل الناشر ما كان في المخطوطة: "فلقوا المسلمين" ، أما السيوطي في الدر المنثور 2: 79 ، فحذف"المسلمين" ، وكتب: "فلقوا يوم أحد" لفساد العبارة التي في مخطوطة الطبري فيما استظهر. ولكني رجحت أن الناسخ الكثير السهو ، سها أيضًا فكتب"المسلمين" مكان"المشركين" ، وأثبت ما رجحت ، لأنه حق الكلام.
(71) الأثر: 7917- سيرة ابن هشام 3: 117 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7912.