وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ

سورة البقرة : 283

القول في تأويل وتفسير قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، لأشهر المفسرين نضع بين أيديكم تفسير الآية 283 من سورة البقرة بالمصحف الشريف:

تفسير المختصر سورة البقرة الآية 283

وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبًا يكتب لكم وثيقة الدَّين، فيكفي أن يُعْطي الذي عليه الحق رهنًا يقبضه صاحب الحق، يكون ضمانًا لحقه، إلى أن يقضي المدين ما عليه من دَين، فإن وَثِقَ بعضكم ببعض لم تلزم كتابة ولا إشهاد ولا رهن، ويكون الدَّين حينئذ أمانة في ذمة المَدِين يجب عليه أداؤه لدائنه، وعليه أن يتقي الله في هذه الأمانة فلا ينكر منها شيئًا، فإن أنكر كان على من شهد المعاملة أن يؤدي الشهادة، ولا يجوز له أن يكتمها، ومن يكتمها فإن قلبه قلبٌ فاجر، والله بما تعملون عليم، لا يخفى عليه شيء، وسيجازيكم على أعمالكم.

تفسير المُيسّر سورة البقرة الآية 283

وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا مَن يكتب لكم فادفعوا إلى صاحب الحق شيئًا يكون عنده ضمانًا لحقِّه إلى أن يردَّ المدينُ ما عليه من دين، فإن وثق بعضكم ببعض فلا حرج في ترك الكتابة والإشهاد والرهن، ويبقى الدَّين أمانة في ذمَّة المدين، عليه أداؤه، وعليه أن يراقب الله فلا يخون صاحبه. فإن أنكر المدين ما عليه من دين، وكان هناك مَن حضر وشهد، فعليه أن يظهر شهادته، ومن أخفى هذه الشهادة فهو صاحب قلب غادر فاجر. والله المُطَّلِع على السرائر، المحيط علمه بكل أموركم، سيحاسبكم على ذلك.

تفسير السعدي سورة البقرة الآية 283

أي: إن كنتم مسافرين { ولم تجدوا كاتبا } يكتب بينكم ويحصل به التوثق { فرهان مقبوضة } أي: يقبضها صاحب الحق وتكون وثيقة عنده حتى يأتيه حقه، ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها التوثق، ودل أيضا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به، كان القول قول المرتهن، ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضا عن الكتابة في توثق صاحب الحق، فلولا أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به لم يحصل المعنى المقصود، ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرا وسفرا، وإنما نص الله على السفر، لأنه في مظنة الحاجة إليه لعدم الكاتب فيه، هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه، فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملا غير ظالم له ولا باخس حقه { وليتق الله ربه } في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالإحسان { ولا تكتموا الشهادة } لأن الحق مبني عليها لا يثبت بدونها، فكتمها من أعظم الذنوب، لأنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو الكذب، ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق، ولهذا قال تعالى: { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم } وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم، لاشتمالها على العدل والمصلحة، وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات، وانتظام أمر المعاش، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه.

تفسير البغوي سورة البقرة الآية 283

( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن بضم الهاء والراء وقرأ الباقون فرهان وهو جمع رهن مثل بغل وبغال وجبل وجبال والرهن جمع الرهان جمع الجمع قاله الفراء والكسائي وقال أبو عبيد وغيره : هو جمع الرهن أيضا مثل سقف وسقف وقال أبو عمرو وإنما قرأنا فرهن ليكون فرقا بينهما وبين رهان الخيل وقرأ عكرمة فرهن بضم الراء وسكون الهاء والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتب وكتب ورسل ورسل ومعنى الآية : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا آلات الكاتبة فارتهنوا ممن تداينونه رهونا لتكون وثيقة لكم بأموالكم واتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض ، وقوله " فرهان مقبوضة " أي ارتهنوا واقبضوا حتى لو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا ، ويجوز في الحضر الرهن مع وجود الكاتب ، وقال مجاهد : لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية وعند الآخرين خرج الكلام في الآية على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط .
والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي ولم يكن ذلك في السفر ولا عند عدم كاتب ( فإن أمن بعضكم بعضا ) وفي حرف أبي " فإن ائتمن " يعني فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به .
( فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) أي فليقضه على الأمانة ( وليتق الله ربه ) في أداء الحق ثم رجع إلى خطاب الشهود وقال : ( ولا تكتموا الشهادة ) إذا دعيتم إلى إقامتها نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه فقال ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) أي فاجر قلبه قيل : ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة قال : " فإنه آثم قلبه " وأراد به مسخ القلب نعوذ بالله من ذلك ( والله بما تعملون ) بيان الشهادة وكتمانها ( عليم ) .

تفسير ابن كثير سورة البقرة الآية 283

يقول تعالى : ( وإن كنتم على سفر ) أي : مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى ( ولم تجدوا كاتبا ) يكتب لكم . قال ابن عباس : أو وجدوه ولم يجد قرطاسا أو دواة أو قلما فرهن مقبوضة ، أي : فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة في يد صاحب الحق .
وقد استدل بقوله : ( فرهان مقبوضة ) على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض ، كما هو مذهب الشافعي والجمهور ، واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضا في يد المرتهن ، وهو رواية عن الإمامأحمد ، وذهب إليه طائفة .
واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر ، قاله مجاهد وغيره .
وقد ثبت في الصحيحين ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير ، رهنها قوتا لأهله . وفي رواية : من يهود المدينة . وفي رواية الشافعي : عند أبي الشحم اليهودي . وتقرير هذه المسائل في كتاب " الأحكام الكبير " ، ولله الحمد والمنة ، وبه المستعان .
وقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : هذه نسخت ما قبلها .
وقال الشعبي : إذا ائتمن بعضكم بعضا فلا بأس ألا تكتبوا أو لا تشهدوا .
وقوله : ( وليتق الله ربه ) يعنى : المؤتمن ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من رواية قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " .
وقوله : ( ولا تكتموا الشهادة ) أي : لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها . قال ابن عباس وغيره : شهادة الزور من أكبر الكبائر ، وكتمانها كذلك . ولهذا قال : ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) قال السدي : يعني : فاجر قلبه ، وهذه كقوله تعالى : ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) [ المائدة : 106 ] ، وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) [ النساء : 135 ] ، وهكذا قال هاهنا : ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم )

تفسير الطبري سورة البقرة الآية 283

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته القرأة في الأمصار جميعًا(كَاتِبًا)، بمعنى: ولم تجدوا من يكتب لكم كتابَ الدَّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمًّى،" فرهان مقبوضة ".
* * *
وقرأ جماعةٌ من المتقدمين: ( وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا )، بمعنى: ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيلٌ، إما بتعذّر الدواة والصحيفة، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة.
* * *
والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار: " ولم تجدوا كاتبًا "، بمعنى: من يكتب، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين.
* * *
[قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه]: (1) وإن كنتم، أيها المتداينون، في سفر بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونًا تقبضونها ممن تداينونه كذلك، ليكون ثقةً لكم بأموالكم.
ذكر من قال ما قلنا في ذلك:
6435 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة "، فمن كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا، فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وَجد كاتبًا أن يرتهن.
6436 - حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا "، يقول: كاتبًا يكتب لكم =" فرهان مقبوضة ".
6437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله عز وجل أنْ يكتب ويُشْهد عليه، وذلك في المُقام. فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [كاتبًا]، فرهان مقبوضة. (2)
* * *
ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها:
6438 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس: " فإن لم تجدوا كتابًا "، يعني بالكتاب، الكاتبَ والصحيفة والدواة والقلم.
6439 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني أبي، عن ابن عباس أنه قرأ: " فإن لم تجدوا كتابًا "، قال: ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبًا.
6440 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقرأها: " فإن لم تجدوا كتابًا "، ويقول: ربما وجد الكاتبُ ولم تُوجد الصحيفة أو المداد، ونحو هذا من القول.
6441 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابًا "، يقول: مدادًا، - يقرأها كذلك - يقول: فإن لم تجدوا مدادًا، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة =" فرهن مقبوضة "، قال: لا يكون الرهن إلا في السفر.
6442 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب قال: إن أبا العالية كان يقرؤها،" فإن لم تجدوا كتابًا "، قال أبو العالية: تُوجد الدواةُ ولا توجد الصحيفة.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله: " فرهان مقبوضة ".
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ )، بمعنى جماع " رَهْن " كما " الكباش " جماع " كبش "، و " البغال " جماع " بَغل "، و " النعال " جماع " نعل ".
* * *
وقرأ ذلك جماعة آخرون: ( فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ ) على معنى جمع: " رِهان "،" ورُهن " جمع الجمع، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع " رَهْن ":، مثل " سَقْف وسُقُف ".
* * *
وقرأه آخرون: ( فَرُهْنٌ ) مخففة الهاء على معنى جماع " رَهْن "، كما تجمع " السَّقْف سُقْفًا ". قالوا: ولا نعلم اسمًا على " فَعْل " يجمع على " فُعُل وفُعْل " إلا " الرُّهُنُ والرُّهْن ". و " السُّقُف والسُّقْف ".
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه: " فرهان مقبوضة ". لأن ذلك الجمعُ المعروفُ لما كان من اسم على " فَعْل "، كما يقال: " حَبْلٌ وحبال " و " كَعْب وكعاب "، ونحو ذلك من الأسماء. فأما جمع " الفَعْل " على " الفُعُل أو الفُعْل " فشاذّ قليل، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل: " سَقْف وسُقُفٌ وسُقْف "" وقلْبٌ وقُلُب وقُلْب " من: " قلب النخل ". (3) " وجَدٌّ وجُدٌّ"، للجد الذي هو بمعنى الحظّ. (4) وأما ما جاء من جمع " فَعْل " على " فُعْل " ف " ثَطٌّ، وثُطّ"، و " وَرْدٌ ووُرْد " و " خَوْدٌ وخُود ".
وإنما دعا الذي قرأ ذلك: " فرُهْنٌ مقبوضة " إلى قراءته فيما أظن كذلك، مع شذوذه في جمع " فَعْل "، أنه وجد " الرِّهان " مستعملة في رِهَان الخيل، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل، الذي هو بغير معنى " الرهان " الذي هو جمع " رَهْن "، ووجد " الرُّهُن " مقولا في جمع " رَهْن "، كما قال قَعْنَب:
بَـانَتْ سُـعادُ وأَمْسَـى دُونَهَـا عَـدَنُ
وَغَلِقَـتْ عِنْدَهَـا مِـنْ قَلْبِـكَ الـرُّهُنُ (5)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن كان المدين أمينًا عند رب المال والدَّين فلم يرتهن منه في سفره رَهْنًا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته، =" فليتق الله "، المدينُ =" رَبّه "، يقول: فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده، أو يَلُطّ دونه، (6) أو يحاول الذهاب به، فيتعرّض من عقوبة الله لما لا قبل له، (7) به وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه، إليه.
* * *
وقد ذكرنا قول من قال: " هذا الحكم من الله عز وجل ناسخٌ الأحكامَ التي في الآية قبلها: من أمر الله عز وجلّ بالشهود والكتاب ". وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (8) وقد:-
6443 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: " فإن أمِن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته "، إنما يعني بذلك: في السفر، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبًا، فليسَ له أن يرتهن ولا يأمن بعضُهم بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله الضحاك = من أنه ليس لرب الدين ائتمانُ المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر=، فكما قال، لما قد دللنا على صحّته فيما مضى قبل.
وأما ما قاله= من أنّ الأمر في الرّهن أيضًا كذلك، مثل الائتمان: في أنه ليس لربّ الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر= فإنه قولٌ لا معنى له، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
6444- أنه اشترى طعامًا نَسَاءً، ورهن به درعًا لهُ. (9)
* * *
فجائز للرجل أن يرهن بما عليه، ويرتهن بمالَهُ من حقّ، في السفر والحضر- لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ معلومًا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن - حين رَهن من ذكرنا - غير واجد كاتبًا ولا شهيدًا، لأنه لم يكن متعذرًا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتبُ والشاهدُ، غير أنهما إذا تبايعا برَهْن، فالواجب عليهما= إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد، أو كان البيع أو الدَّين إلى أجل مسمى (10) = أن يكتبا ذلك ويشهدَا على المال والرّهن. وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدينَ وربَّ المال بإشهادهم، فقال لهم: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا - ولا تكتموا، أيها الشهود، بعد ما شهدتم شهادَتكم عند الحكام، كما شهدتم على ما شهدتم عليه، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذُ له بحقه.
ثم أخبر الشاهدَ جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته، وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان، فقال: " ومن يَكتمها ". يعني: ومن يكتم شهادته =" فإنه آثم قَلبه "، يقول: فاجرٌ قلبه، مكتسبٌ بكتمانه إياها معصية الله، (11) كما:-
6445 - حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثمُ قلبه "، فلا يحل لأحد أن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ركب إثمًا عظيمًا.
6446 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه "، يقول: فاجر قلبه.
6447 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ (12) [سورة المائدة: 72]، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لأن الله عز وجل يقول: " ومَنْ يكتمها فإنه آثمٌ قلبه ".
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول: " على الشاهد أن يشهد حيثما استُشهد، ويخبر بها حيثُ استُخبر ".
6448 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها، ولا تقل: " أخْبِر بها عند الأمير "، أخبره بها، لعله يراجع أو يَرْعَوي.
* * *
وأما قوله: " والله بما تعملون عليمٌ"، فإنه يعني: " بما تعملون " في شهادتكم من إقامتها والقيام بها، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها =" عليمٌ"، يحصيه عليكم، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم، إما خيرًا وإما شرًّا على قدر استحقاقكم.
-------------------
الهوامش :
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها ، حتى يستقيم الكلام .
(2) الزيادة بين القوسين ، أخشى أن تكون سقطت من الناسخ .
(3) هذا كله غريب لم يرد في كتب اللغة .
(4) وهذا أيضًا غريب لم أجده في كتب اللغة ، وإنما قالوا في جمعه"أجداد وأجد وجدود" . وكان في المطبوعة"حد وحد" بالحاء ، و"الخط" ، وهو خطأ ، وفي المخطوطة غير منقوط .
(5) مختارات ابن الشجرى 1 : 6 ، ولباب الآداب 402-404 ، اللسان (رهن) ، وروايته هناك"من قبلك" ، وهي أجود فيما أرى . غلق الرهن غلقًا (بفتحتين) وغلوقًا : إذا لم تجد ما تخلص به الرهن وتفكه في الوقت المشروط ، فعندئذ يملك المرتهن الرهن الذي عنده . كان هذا على رسم الجاهلية ، فأبطله الإسلام . يقول : فارقتك بعد العهود والمواثيق والمحبات التي أعطيتها ، فذهبت بذلك كله ، كما يذهب بالرهان من كانت تحت يده .
(6) يقال : "لط الغريم بالحق دون الباطل" : دافع ومنع الحق . و"لط حقه ، ولط عليه" جحده ومنعه .
(7) في المطبوعة والمخطوطة : "ما لا قبل" بحذف اللام ، وما أثبت هو أقرب إلى الجودة .
(8) انظر ما سلف آنفًا : ص 53-55 .
(9) الأثر : 6444- ذكره الطبري بغير إسناد . وقد رواه البخاري في صحيحه (الفتح 5 : 100- 102) ومسلم في صحيحه 11 : 39 ، 40 من طرق ، عن عائشة أم المؤمنين . وسنن البيهقي 6 : 36 . يقال نسأت عنه دينه نساء : (بالمد وفتح النون) : أخرته . و"بعته بنسيئة" ، أي : بأخرة .
(10) في المطبوعة : "وكان البيع . . . " وأثبت ما في المخطوطة .
(11) انظر تفسير"الإثم" فيما سلف من فهارس اللغة .
(12) في المخطوطة والمطبوعة : "ومن يشرك بالله" ، وليست هذه قراءتها ، أخطأ الناسخ وسها .