تفسير الآية 218 من سورة البقرة من القرآن الكريم، تتضمن تفاسير لعدة مفسرين مشهورين مثل تفسير المختصر, تفسير المُيسّر, تفسير السعدي, تفسير البغوي, تفسير ابن كثير, تفسير الطبري.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
سورة البقرة : 218القول في تأويل وتفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لأشهر المفسرين نضع بين أيديكم تفسير الآية 218 من سورة البقرة بالمصحف الشريف:
218 - إن الذين آمنوا بالله ورسوله، والذين تركوا أوطانهم مهاجرين إلى الله ورسوله، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا؛ أولئك يطمعون في رحمة الله ومغفرته، والله غفور لذنوب عباده رحيم بهم.
إن الذين صَدَّقوا بالله ورسوله وعملوا بشرعه والذين تركوا ديارهم، وجاهدوا في سبيل الله، أولئك يطمعون في فضل الله وثوابه. والله غفور لذنوب عباده المؤمنين، رحيم بهم رحمة واسعة.
هذه الأعمال الثلاثة, هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية, وبها يعرف ما مع الإنسان, من الربح والخسران، فأما الإيمان, فلا تسأل عن فضيلته, وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة, وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد, قبلت أعمال الخير منه, وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل, ولا فرض, ولا نفل. وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف, لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله, وأهله, وخلانه, تقربا إلى الله ونصرة لدينه. وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء, والسعي التام في نصرة دين الله, وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة, وجزاؤه, أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر, لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام, وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم. فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا. فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله, لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل, وعدم القيام بالأسباب, فهذا عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه, ونقص عقله, بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح, ووجود الغلة بلا بذر, وسقي, ونحو ذلك. وفي قوله: { أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها, ويعول عليها, بل يرجو رحمة ربه, ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه, وستر عيوبه. ولهذا قال: { وَاللَّهُ غَفُورٌ } أي: لمن تاب توبة نصوحا { رَحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء, وعم جوده وإحسانه كل حي. وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة, حصل له مغفرة الله, إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله. وإذا حصلت له المغفرة, اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة، التي هي آثار الذنوب, التي قد غفرت واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة, حصل على كل خير في الدنيا والآخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم, فلولا توفيقه إياهم, لم يريدوها, ولولا إقدارهم عليها, لم يقدروا عليها, ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولا وآخرا, وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.
قال أصحاب السرية : يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزوا؟ فأنزل الله تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا ) فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم ) ( وجاهدوا ) المشركين ( في سبيل الله ) طاعة لله فجعلها جهادا ، ) ( أولئك يرجون رحمت الله ) أخبر أنهم على رجاء الرحمة ( والله غفور رحيم ) .
قال ابن إسحاق : فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ، طمعوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول الله ، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين [ المهاجرين ] ؟ فأنزل الله عز وجل :
( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ) فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء .
قال ابن إسحاق : والحديث في هذا عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، عن عروة .
وقد روى يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق . وروى موسى بن عقبة عن الزهري نفسه ، نحو ذلك .
وروى شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير نحوا من هذا أيضا ، وفيه : فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين ، فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا : أيحل القتال في الشهر الحرام ؟ فأنزل الله : ( يسألونك عن الشهر الحرام [ قتال فيه ] ) الآية . وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب " دلائل النبوة " .
ثم قال ابن هشام عن زياد ، عن ابن إسحاق : وقد ذكر عن بعض آل عبد الله [ بن جحش ] أن الله قسم الفيء حين أحله ، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه ، وخمسا إلى الله ورسوله . فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير .
قال ابن هشام : وهي أول غنيمة غنمها المسلمون . وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون ، وعثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون .
قال ابن إسحاق : فقال أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، في غزوة عبد الله بن جحش ، ويقال : بل عبد الله بن جحش قالها ، حين قالت قريش : قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، فسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه المال ، وأسروا فيه الرجال . قال ابن هشام : هي لعبد الله بن جحش :
تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد
وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله
لئلا يرى لله في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد دما وابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القد عاند
القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: إنّ الذين صَدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به = وبقوله: " والذين هاجروا " الذين هجروا مُساكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم، (39) إلى غيرها هجرة... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... (40) لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه. وأصل المهاجرة: " المفاعلة " من هجرة الرجل الرجلَ للشحناء تكون بينهما، ثم تستعمل في كل من هجر شيئًا لأمر كرهه منه. وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " مهاجرين " ، لما وصفنا من هجرتهم دورَهم ومنازلهم كراهةً منهم النـزولَ بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم - إلى الموضع الذي يأمنون ذلك.
* * *
وأما قوله: " وجاهدوا " فإنه يعني: وقاتلوا وحاربوا.
* * *
وأصل " المجاهدة "" المفاعلة " من قول الرجل: " قد جَهَد فلان فلانًا على كذا " -إذا كرَبَه وشقّ عليه-" يجهده جهدًا ". فإذا كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد من صَاحبه شدة ومشقة، قيل: " فلانٌ يجاهد فلانًا " - يعني: أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشق عليه -" فهو يُجاهده مجاهدة وجهادًا " .
* * *
وأما " سبيل الله "، فطريقه ودينه. (41)
* * *
فمعنى قوله إذًا : " والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله "، والذين تحوَّلوا من سلطان أهل الشرك هجرةً لهم، وخوفَ فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله =" أولئك يرجون رَحمة الله "، أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم.
=" والله غفور "، أي ساتر ذنوبَ عباده بعفوه عنها، متفضل عليهم بالرحمة. (42)
* * *
وهذه الآية أيضًا ذُكر أنها نـزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه.
* ذكر من قال ذلك:
4102 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل، عن أبي السَّوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله قال: لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان ، قال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم -أظنه قال: - وِزْرًا، فليس لهم فيه أجرٌ. فأنـزل الله: " إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ". (43)
4103 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: أنـزل الله عز وجل القرآنَ بما أنـزلَ من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه - يعني: في قتلهم ابن الحضرمي - فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نـزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمعُ أن تكون لنا غزوة نُعْطى فيها أجرَ المجاهدين؟ فأنـزل الله عز وجل فيهم: " إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيمٌ". فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء. (44)
4104 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسنَ الثناء فقال: " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيم "، هؤلاء خيارُ هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجَا طلب، ومن خاف هرب.
4105 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
------------------------
الهوامش :
(39) كان الكلام في المطبوعة متصلا بما بعده في موضع هذه النقط ، ولكنه لا يستقيم ولا يطرد . ففصلت بين الكلامين . وظني أن سياق الكلام وتمامه : "فتحوَّلوا عنهم وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها هجرة ، لما كرهوا من كفرهم وشركهم ، وإيثارًا لجوار المؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" ، وسياق الكلام يدل على ذلك .
(40) مكان هذه النقط خرم لا شك فيه ، كأن ناسخًا أسقط سطرًا أو سطرين ، وكان صدر الكلام فيما أتوهم . "هجر المكان يهجره هجرًا وهجرانًا وهجرة : كرهه فخرج منه ، تاركًا لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه" - أو كلامًا هذا معناه .
(41) انظر معنى"سبيل الله" فيما سلف ، 2 : 497/ 3 : 564 ، 583 .
(42) انظر معنى"غفور" فيما سلف من مراجعه في فهارس اللغة (غفر) .
(43) الأثر : 4102 - هو من تمام الأثر السالف رقم : 4084 ، وهو بتمامه في الدر المنثور 1 : 250
(44) الأثر : 3103 - سيرة ابن هشام 2 : 255 ، وهو تمام الأثر السالف : 4082 . وكان في المطبوعة هنا : "فوفقهم الله من ذلك . . . " ، والصواب ما أثبت من ابن هشام .