تفسير الآية 100 من سورة البقرة من القرآن الكريم، تتضمن تفاسير لعدة مفسرين مشهورين مثل تفسير المختصر, تفسير المُيسّر, تفسير السعدي, تفسير البغوي, تفسير ابن كثير, تفسير الطبري.
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
سورة البقرة : 100القول في تأويل وتفسير قوله تعالى أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، لأشهر المفسرين نضع بين أيديكم تفسير الآية 100 من سورة البقرة بالمصحف الشريف:
ومن سوء حال اليهود أنهم كلما أخذوا على أنفسهم عهدًا - ومن جملته الإيمان بما دلت عليه التوراة من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم - نقضه فريق منهم، بل أكثر هؤلاء اليهود لا يؤمنون بما أنزل الله تعالى حقيقة؛ لأن الإيمان يحمل على الوفاء بالعهد.
ما أقبح حال بني إسرائيل في نقضهم للعهود!! فكلما عاهدوا عهدًا طرح ذلك العهد فريق منهم، ونقضوه، فتراهم يُبْرِمون العهد اليوم وينقضونه غدًا، بل أكثرهم لا يصدِّقون بما جاء به نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا فيه التعجيب من كثرة معاهداتهم, وعدم صبرهم على الوفاء بها. فـ " كُلَّمَا " تفيد التكرار, فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض، ما السبب في ذلك؟ السبب أن أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق إيمانهم, لكانوا مثل من قال الله فيهم: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }
قوله تعالى: {أو كلما} واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام.
{عاهدوا عهداً} يعني اليهود عاهدوا لئن خرج محمد ليومنن به، فلما خرج كفروا به.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لما ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخذ الله عليهم من الميثاق وعهد إليهم في محمد أن يؤمنوا به، قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا في محمد عهد، فأنزل الله تعالى هذه الآية". يدل عليه قراءة أبي رجاء العطاردي (( أو كلما عوهدوا )) فجعلهم مفعولين.
وقال عطاء: "هي العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود أن لا يعاونوا المشركين على قتاله فنقضوها كفعل بني قريظة والنضير" دليله قوله تعالى: {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم}[56-الأنفال].
{نبذه} طرحه ونقضه.
{فريق} طوائف.
{منهم} من اليهود.
{بل أكثرهم لا يؤمنون}.
وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق ، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم : والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم ولا أخذ [ له ] علينا ميثاقا . فأنزل الله : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم )
وقال الحسن البصري في قوله : ( بل أكثرهم لا يؤمنون ) قال : نعم ، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه ، يعاهدون اليوم ، وينقضون غدا .
وقال السدي : لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة : ( نبذه فريق منهم ) أي : نقضه فريق منهم .
وقال ابن جرير : أصل النبذ : الطرح والإلقاء ، ومنه سمي اللقيط : منبوذا ، ومنه سمي النبيذ ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء . قال أبو الأسود الدؤلي :
نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
قلت : فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها . ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره ، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ومناصرته ، كما قال : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) الآية [ الأعراف : 157 ]
القول في تأويل قوله تعالى : أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)
قال أبوجعفر: اختلف أهل العربية في حكم " الواو " التي في قوله: (أو كلما عاهدوا عهدا). فقال بعض نحويي البصريين: هي" واو " تجعل مع حروف الاستفهام, وهي مثل " الفاء " في قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [البقرة: 87]، قال: وهما زائدتان في هذا الوجه, وهي مثل " الفاء " التي في قوله: فالله لتصنعن كذا وكذا, (77) وكقولك للرجل: " أفلا تقوم "؟ وإن شئت جعلت " الفاء " و " الواو " هاهنا حرف عطف.
وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام.
* * *
والصواب في ذلك عندي من القولة أنها " واو " عطف، أدخلت عليها " ألف " الاستفهام, كأنه قال جل ثناؤه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ثم أدخل " ألف " الاستفهام على " وكلما " فقال : (قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم)
وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له, (78) فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن " الواو " و " الفاء " من قوله: (أو كلما) و (أفكلما) زائدتان لا معنى لهما.
* * *
وأما " العهد "، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى, ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته, فقال تعالى ذكره: أو كلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا، نبذه فريق منهم، فتركه ونقضه؟ كما:-
1639 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال مالك بن الصيف - حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه-: والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ له علينا ميثاقا! فأنـزل الله جل ثناؤه: (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون). (79)
1640 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأما " النبذ " فإن أصله -في كلام العرب- الطرح, ولذلك قيل للملقوط: " المنبوذ "، (80) لأنه مطروح مرمي به. ومنه سمي النبيذ " نبيذا ", لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء، ثم يعالج بالماء. وأصله " مفعول " صرف إلى " فعيل ", أعني أن " النبيذ " أصله " منبوذ " ثم صرف إلى " فعيل " فقيل: " نبيذ "، كما قيل: " كف خضيب، ولحية دهين " - يعني: مخضوبة ومدهونة. (81) يقال منه: " نبذته أنبذه نبذا ", كما قال أبو الأسود الدؤلي:
نظــرت إلــى عنوانــه فنبذتـه
كنبذك نعـلا أخلقت مــن نعالكــا (82)
* * *
فمعنى قوله جل ذكره: (نبذه فريق منهم)، طرحه فريق منهم، فتركه ورفضه ونقضه. كما:-
1641 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (نبذه فريق منهم) يقول: نقضه فريق منهم.
1642 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: (نبذه فريق منهم)، قال: لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه, ويعاهدون اليوم وينقضون غدا. قال: وفي قراءة عبد الله: (نقضه فريق منهم).
* * *
و " الهاء " التي في قوله: (نبذه)، من ذكر العهد. فمعناه أو كلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم.
* * *
و " الفريق " الجماعة، لا واحد له من لفظه، بمنـزلة " الجيش " و " الرهط" الذي لا واحد له من لفظه. (83)
* * *
و " الهاء والميم " اللتان في قوله: (فريق منهم)، من ذكر اليهود من بني إسرائيل.
* * *
وأما قوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون) فإنه يعني جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا، نقضه فريق منهم - لا يؤمنون.
* * *
ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله، على عدد الفريق. فيكون الكلام حينئذ معناه: أو كلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا - ما ينقض ذلك فريق منهم, ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله، أكثرهم، لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه.
والوجه الآخر: أن يكون معناه: أو كلما عاهدت اليهود ربها عهدا، نبذ ذلك العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه = على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم = ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله, ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى " الإيمان "، وأنه التصديق. (84)
----------------
الهوامش:
(77) لم أعلم ماذا أراد الطبري بهذا .
(78) انظر ما سلف 1 : 439 - 441 .
(79) الأثر : 1639 - في سيرة ابن هشام 2 : 196 ، مع اختلاف يسير في اللفظ . وقد ذكر ابن هشام في 2 : 161"مالك بن الصيف" وقال : "ويقال : ابن ضيف" .
(80) في تفسير ابن كثير 1 : 247 : "وسمى اللقيط . . " واللقيط أجود من الملقوط .
(81) انظر ما سلف 1 : 112 .
(82) ديوانه : 21 (في نفائس المخطوطات : 2) ، وسيأتي في 20 : 49 - 50 (بولاق) ، ومجاز القرآن : 48 ، من أبيات كتب بها إلى صديقه الحصين بن الحر ، وهو وال على ميسان ، وكان كتب إليه في أمر يهمه ، فشغل عنه؛ وقبل البيت :
وخـبرني مـن كـنت أرسـلت أنمـا
أخــذت كتـابي معرضـا بشـمالكا
(83) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 244 ، 245 .
(84) انظر ما سلف 1 : 234 - 235 ، 271 ، 560 ، وهذا الجزء 2 : 143 ، 348 .